كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



مسألة: من صام ستة أيام عن يمينين أجزأته ولا حاجة الى تعيين إحدى الثلاثتين لإحدى اليمينين لأن الواجب عن كل منهما ثلاثة أيام وقد أتى بها فيخرج عن العهدة {ذلك} المذكور {كفارة أيمانكم إذا حلفتم} وحنثتم فحذف ذكر الحنث للعلم بأن الكفارة لا تجب بمجرد الحلف، وللتنبيه على أن الكفارة لا يجوز تقديمها على اليمين، وأما بعد اليمين وقبل الحنث فيجوز وبه قال مالك والشافعي وأحمد موافقًا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا فكفر عن يمينك ثم ائت بالذي هو خير» ولأن الكفارة حق ماليّ يتعلق بسببين فجاز تعجيله بعد وجود أحد السببين كتعجيل الزكاة بعد وجود النصاب. هذا إذا كان يكفر بغير الصوم، أما الصوم فلا يجوز تقديمه لأن العبادات البدنية لا تقدّم على وقتها إذا لم تمس إليه حاجة كالصلاة وصوم رمضان، ولأن الصوم إنما يجوز التكفير به عند العجز عن جميع الخصال المالية، وإنما يتحقق العجز بعد الوجوب وإن كان الحنث بارتكاب محظور كأن حلف أن لا يشرب الخمر أجزأه التكفير قبل الشرب أيضًا لوجود أحد السببين. والتكفير لا يتعلق به استباحة ولا تحريم بل المحلوف عليه حرام قبل اليمين وبعدها وقبل التكفير وبعده لا أثر لهما فيه. جميع ما ذكرنا ظاهر مذهب الشافعي، أما عند أبي حنيفة وأصحابه فلا يجوز التكفير قبل الحنث مطلقًا. {واحفظوا أيمانكم} قللوها ولا تكثروا منها، أو احفظوها إذا حلفتم عن الحنث، وعلى هذا تكون الأيمان المختصة بالتي الحنث فيها معصية كمن حلف أن لا يشرب الخمر بخلاف مالو حلف ليشربن فإنه لا يؤمر حينئذ بالحفظ عن الحنث. وقيل: احفظوها بأن تكفروها أو المراد لا تنسوها تهاونًا بها {كذلك} مثل ذلك البيان الشافي {يبين الله لكم آياته} أحكامه وأعلام شريعته {لعلكم تشكرون} نعمة البيان وتسهيل المخرج من الحرج.
ثم إنه سبحانه استثنى من جملة الأمور المستطابة الخمر والميسر- وقد تقدم معناهما وما يتعلق بهما في سورة البقرة، وسلك في سلك التحريم الأنصاب ووالأزلام وقد ذكرناهما في أول هذه السورة.
واعلم أنه كانت تحدث قبل تحريم الخمر أشياء يكرهها رسول الله صلى الله عليه وسلم منها قصة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه مع عمه حمزة على ما روي في الصحيحين أنه قال: كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفًا من الخمس، فلما أردت أن أبني بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم واعدت رجلًا صوّاغًا من بني قينقاع أن يرتحل معي لأذخر، أردت أن أبيعه من الصوّاغين فأستعين به في وليمة عرسي. فبينا أنا أجمع لشارفيّ متاعًا من الأقتاب والغرائر والحبال وشارفاي مناختان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار، أقبلت فإذا أنا بشارفيّ قد جبت أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما فلم أملك عيني حين رأيت ذلك المنظر وقلت: من فعل هذا؟ قالوا: فعله حمزة بن عبد المطلب وهو في البيت في شرب مع امرأة من الأنصار غنت أغنية فقالت في غنائها:
ألا يا حمز للشرف النواء ** وهن معقلات بالفناء

ضع السكين في اللبات منها ** فضرجهن حمزة بالدماء

وأطعم من شرائحها كبابًا ** ملهوجة على وهج الصلاء

فأنت أبا عمارة المرجى ** لكشف الضر عنا والبلاء

فوثب الى السيف أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما. قال علي رضي الله عنه: فانطلقت حتى دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده زيد بن حارثة فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أتيت له فقال: ما لك؟ فقلت يا رسول الله ما رأيت كاليوم! عدا حمزة على ناقتي فاجتب أسنمتهما وبقر خواصرهما وها هوذا في بيت معه شرب. قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بردائه ثم انطلق يمشي واتبعت أثره،- أنا وزيد بن حارثة- حتى جاء البيت الذي فيه. فاستأذن فأذن له فإذا هم شرب، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوم حمزة فيما فعل فإذا حمزة ثمل محمرة عيناه، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صعد النظر فنظر إلى وجهه ثم قال: وهل أنتم إلا عبيد أبي؟ فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل فنكص على عقبيه القهقرى، فخرج وخرجنا فكانت هذه القصة من الأسباب الموجبة لنزول تحريم الخمر. قالت العلماء: هذه الآية تدل على تحريمها من وجوه منها: تصدير الجملة بـ«إنما» الدالة على الحصر معناه ليست الخمر إلا الرجس وعمل الشيطان. ومنها أنه قرنها بعبادة الأصنام ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم: «شارب الخمر كعابد الوثن» ومنها أنه جعلها رجسًا كما قال في موضع آخر {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} [الحج: 30] وأصل الرجس العمل القبيح القذر. قال الفراء: {ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون} [يونس: 100] أي العقاب والغضب وكأنه إبدال الرجز والرجس بالفتح الصوت الشديد من الرعد ومن هدير البعير فلهذا سمي العمل القوي الدرجة في القبح رجسًا. ومنها أنه جعلها من عمل الشيطان، ومن المعلوم أنه لا يصدر منه إلا الشر البحت. ومنها أنه أمر بالاجتناب وظاهر الامر للوجوب. ومنها انه جعل الاجتناب من الفلاح فيكون القرب منه خيبة. والضمير في {فاجتنبوه} عائد الى الرجس أو العمل أو إلى المضاف المحذوف أي إنما تعاطي الخمر ونحو ذلك. ومنها شرح أنواع المفاسد المنتجة منها من التعادي والتباغض والصد عن ذكر الله وعن الصلاة خصوصًا وفيه أن غرض الشرب من الاجتماع تأكد الألفة والمودّة. ثم إنها تورث نقيض المقصود لأن العقل إذا زال استولت الشهوة والغضب ويؤدي الى التنازع واللجاج، وكذا القمار يفضي الى إفناء المال وإلى أن يقامر على حليلته وأهله وولده وكل ذلك يورث العداوة والفتن وهذان من مكايد الشيطان ومضادّان لمصالح الإنسان. وأيضًا الخمر سبب تهييج اللذه الجسمية، والقمار يورث لذة الغلبة الحالية، وكلتاهما توجب الاشتغال عن اللذات الحقيقية الحاصلة من الاستغراق في طاعة المعبود. وإنما أفرد ذكر الخمر والميسر ثانيًا لأن الخطاب مع المؤمنين فقرنهما أولًا بذكر الأنصاب والأزلام تنبيهًا على أنها جميعًا من أعمال الجاهلية وأهل الشرك، ثم أفردهما لأن الكلام مسوق لتحريمهما على المخاطبين حيث إنهم كانوا لا يتعاطون سوى هذين. ومنها سوق الكلام بطريق الاستفهام في قوله: {فهل أنتم منتهون} كأنه قيل: قد تلي عليكم ما هو كاف في باب المنع فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون أم أنتم على ما كنتم عليه كأن لم تزجروا؟ ولهذا قالوا قد انتهينا يا رب. إذ فهموا التحريم المؤكد. ومنها إنه قال عقيب ذلك {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا} والظاهر أن المراد الطاعة فيما تقدم من الأمر بالاجتناب والحذر عن المخالفة في ذلك الباب. ومنها تهديد من خالف هذا التكليف بقوله: {فإن توليتم} الآية. والمراد إن أعرضتم فالحجة قد قامت عليكم والرسول قد خرج عن عهدة البلاغ وقد أعذر من أنذر وجزاء المخالف الى الله المقتدر. عن أنس قال: كنت ساقي القوم يوم حرمت في بيت أبي طلحة وما شرابهم إلا فضيخ البسر والتمر، فإذا مناد ينادي ألا إن الخمر قد حرمت. قال: فجزت في سكك المدينة فقال أبو طلحة: اخرج فأرقها. فقالوا: قتل فلان وفلان وهي في بطونهم فأنزل الله تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} الطعم خلاف الشرب في الأغلب وقد يقع على المشروب كقوله تعالى: {ومن لم يطعمه فإنه مني} [البقرة: 249] فيجوز أن يكون المراد فيما شربوا من الخمر، ويحتمل أن يكون معنى الطعم راجعًا إلى التلذذ بما يؤكل ويشرب جميعًا، فقد تقول العرب: أطعم أي ذق. ونظير هذه الآية قوله في نسخ القبلة {وما كان الله ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143] والعامل في {إذا ما اتقوا} معنى الكلام المتقدم أي لا يأثمون في ذلك إذا اتقوا المحرمّات لأنهم شربوها حين كانت محللة. والمراد أن أولئك كانوا على هذه الصفة وهو ثناء عليهم وحمد لأحوالهم في الإيمان والتقوى والإحسان. وزعم بعض الجهلة أن هذا الحكم متعلق بالمستقبل وإلا قيل: لم يكن أو ما كان جناح مثل {وما كان الله ليضيع} [البقرة: 143] والمعنى لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه العداوة والبغضاء وسائر المفاسد المذكورة بل حصل معه أنواع المصالح من الطاعة والتقوى والإحسان إلى الخلق. والجواب أن صيغة طعموا وهي المضي تأباه، وأيضًا إن سبب نزول الآية يكذبه. روى أبو بكر الأصم أنه لما نزل تحريم الخمر قال أبو بكر: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وأكلوا القمار، وكيف بالغائبين عنا في البلاد لا يشعرون بتحريم الخمر وهم يطعمونها؟ فنزلت. وعلى هذا فالحال قد ثبت فيما يستقبل لكن في حق الغائبين الذين لم يبلغهم هذا النص. ثم أنه سبحانه شرط في نفي الجناح حصول التقوى والإيمان مرتين، وفي الثالثة التقوى والإحسان. فقال الأكثرون: الأول فعل الاتقاء، والثاني دوامه والثبات عليه، والثالث اتقاء ظلم العباد مع الإحسان إليهم. وقيل الأول اتقاء جميع المعاصي قبل نزول الآية، والثاني اتقاء الخمر والميسر وما في هذه الآية، والثالث اتقاء ما يحدث تحريمه بعد هذه الآية، وهذا قول الأصم. وقيل: اتقوا الكفر ثم الكبائر ثم الصغائر. وقال القفال: الأول الاتقاء من القدح في صحة النسخ ليثبت تحريم الخمر بعد أن كانت مباحة، والثاني الإتيان بالعمل المطابق للآية، والثالث المداومة على التقوى مع الإحسان إلى الخلق. ثم إنه سبحانه استثنى بعض الصيد من المحللات فقال على سبيل المثال التوكيد القسمي {ليبلونكم الله} أي ليعاملنكم معاملة المختبر {بشيءٍ} التنوين للتحقير وفيه أنه ليس من الفتن العظام التي تدحض عندها الأقدام كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال، فامتحن الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بصيد البر كما امتحن أصحاب أيلة بصيد البحر. قال مقاتل بن حيان: ابتلاهم بالصيد وهم محرمون عام الحديبية حتى إن الوحش والطير يغشاهم في رحالهم فيقدرون على أخذها بالأيدي وصيدها بالرماح وما رأوا مثل ذلك قط، فنهاهم الله عن ذلك ابتلاء. قال الواحدي: الذي تناله أيديهم من الصيد الفراخ والبيض وصغار الوحش، والذي تناله الرماح الكبار. و«من» في {من الصيد} للبيان أو للتبعيض وهو صيد البر أو صيد الإحرام والمراد به العين لا الحدث بدليل عود الضمير في {تناله} إليه {ليعلم الله} ليظهر معلومة وهو خوف الخائف أو ليعاملكم معاملة من يطلب أن يعلم أو ليعلم أولياء الله ومحل {بالغيب} النصب على الحال أي يخافه حال كونه غائبًا عن رؤيته أو عن حضور الناس {فمن اعتدى} فصاد {بعد ذلك} الابتلاء {فله عذاب أليم} في الآخرة وقيل في الدنيا.
عن ابن عباس: هو أن يضرب بطنه وظهره ضربًا وجيعًا وينزع ثيابه. {لا تقتلوا الصيد} قال الشافعي: إنه البري المتوحش المأكول اللحم. أما الأول فلقوله تعالى بعد ذلك: {أحل لكم صيد البحر} وأما المتوحش فيدخل فيه نحو الظبي وإن صار مستأنسًا ويخرج الإنسي وإن صار متوحشًا إبقاء لحكم الأصل، وأما كونه مأكولًا فلقوله تعالى: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا} فيعلم منه أنه مما يحل أكله في غير الإحرام. وقال أبو حنيفة: المحرم إذا قتل سبعًا لا يؤكل لحمه ضمن. وسلم أنه لا يجب الضمان في قتل الذئب وفي قتل الفواسق الخمس فقال الشافعي: لا معنى في قتلها إلا الإيذاء فيلزم جواز قتل جميع المؤذيات لاسيما وقد جاء «خمس يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والحية والعقرب والكلب والعقور» وفي رواية بزيادة السبع العادي واحتج لأبي حنيفة بقول علي رضي الله عنه:
صيد الملوك أرانب وثعالب ** فإذا ركبت فصيدي الأبطال

وزيف بأن الثعلب عندنا حلال. {وأنتم حرم} أي محرمون بالحج والعمرة أيضًا على الأصح. وقيل: وقد دخلتم الحرم. وقيل: هما مرادان بالآية وهو قول الشافعي. وقوله: {لا تقتلوا} يفيد المنع ابتداء والمنع تسببًا فليس له أن يتعرض للصيد ما دام محرمًا أو في الحرم بالسلاح ولا بالجوارح من الكلاب والطيور سواء كان الصيد صيد الحل أو صيد الحرم {ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل} من قرأ {جزاء} بالتنوين {ومثل} بالرفع فالمعنى: فعليه جزاء صفته كذا. ومن قرأ بالإضافة فمن باب إضافة المصدر إلى المفعول أي فعلية أن يجزىء مثل ما قتل. قال بعض العلماء: المثل مقحم للتأكيد إذ الواحب عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله فهو قولهم: أنا أحب مثلك أي أحبك. وقيل: الإضافة بمعنى «من» أي جزاء من مثل ما قتل. قال سعيد بن جبير: المحرم إذا قتل الصيد خطأ لا يلزمه شيء. وهو قول داود لأن النهي ورد عن التعمد وهو أن يقتله ذاكرًا لإحرامه أو عالمًا أن ما يقتله مما يحرم عليه قتله، فإن قتله وهو ناسٍ لإحرامه أو رمى صيدًا وهو يظن أنه ليس بصيد، أو رمى غير الصيد فعدل السهم فأصاب صيدًا فهو مخطىء لا شيء عليه لفقدان القيد المذكور. ويتأكد هذا الرأي بقوله: {ليذوق وبال أمره} وبقوله: {ومن عاد} أي الى ما تقدم ذكره وهو القتل العمد، والانتقام أيضًا يناسب العمد لا الخطأ قال جمهور الفقهاء: يلزمه الضمان سواء قتل عمدًا أو خطأ قياسًا على سائر محظورات الإحرام كحلق الرأس وغيره وكما في ضمان مال المسلم، فإنه لما ثبتت الحرمة لحق المالك لم يختلف ذلك بكونه عمدًا أو لا.